في قلب ولاية كاليفورنيا الأمريكية، تقع منطقة أصبحت أيقونة للابتكار التكنولوجي
العالمي، إنها "وادي السيليكون" Silicon Valley. هذه المنطقة، والتي تحتضن حاليًا
مقرات شركات عملاقة مثل آبل وجوجل وأدوبي وإنتل، لم تكتسب اسمها عبثًا، حيث أن
السيليكون، – العنصر الذي يعتبر حجر الأساس في صناعة جميع
الشرائح الإلكترونية
التي من الممكن أن تجدها اليوم – هو الذي أعطى هذا الوادي التقني اسمه. حاليًا،
يصعُب العثور على جهاز إلكتروني لا يحتوي على السيليكون في
مكوناته الأساسية. فمن الهواتف الذكية إلى اللابتوبات، ومن السيارات الذكية إلى الأجهزة الطبية
المتطورة، يلعب السيليكون دورًا محوريًا في عمل
الترانزستورات والديودات
التي تشكل أساس هذه المنتجات التقنية. وبما أنك تقرأ هذه المقالة فغالبًا لديك
فضول لمعرفة ما الذي يجعل السيليكون فريدًا لدرجة أنه أصبح
العمود الفقري لصناعة الإلكترونيات؟ وما هي الخصائص التي تميزه عن غيره من المواد؟
أهمية السيليكون لصناعة الشرائح الإلكترونية
ما هو عنصر السيليكون أصلًا؟
على الورق، يندرج السيليكون ضمن عناصر المجموعة الرابعة عشرة في الجدول الدوري ويعُد أحد أكثر
العناصر انتشارًا على الأرض، وينتمي إلى مجموعة أشباه الموصلات. وهو يحتل مكانة
فريدة بين العناصر، فهو ليس فلزًّا أو معدنًا بالمعنى التقليدي مثل الحديد أو
الألمنيوم، وبنفس الوقت لا يصنف كأحد العناصر اللافلزية مثل الكربون
والأكسجين أو الكلور. بدلاً من ذلك، يقع السيليكون في منطقة وسطى، ولذلك
يُعرف أيضًا بأنه من "أشباه الفلزات" وهذا يمنحه خصائص فريدة تجعله مثاليًا
للاستخدامات الإلكترونية.
في حالته النقية، يظهر السيليكون كمادة صلبة ذات لون رمادي غامق يميل إلى الأسود،
ويمتلك بعض البريق المشابه للبريق المعدني. لكن بالطبع لا يقارن لمعان السيليكون
مع البريق الواضح للمعادن. هذا المظهر الفريد يعكس طبيعته الكيميائية المعقدة،
فمن الناحية الكيميائية، يمتلك السيليكون أربعة إلكترونات في مداره الخارجي أو
غُلاف التكافؤ، مما يمنحه القدرة على تكوين روابط قوية مع ذرات أخرى، وهذه الخاصية
بالذات هي ما تجعله مهمًا جدًا في مجال الإلكترونيات.
ارتباط السيليكون بتكوين الدارات الإلكترونية
لا يمكن حصر كون السيليكون العنصر المثالي في تصنيع الرقائق الإلكترونية والدوائر المتكاملة في
سبب واحد، بل أن هناك عدة عوامل أساسية تلعب دورًا في تحقيق ذلك ومنها
الآتي:
الوفرة والسعر المنخفض
قد يبدو ذلك مفاجئًا ولكن الحقيقة أن السيليكون هو ثاني أكثر العناصر انتشارًا في
القشرة الأرضية بعد الأكسجين، حيث يشكل حوالي 27% من تركيبها. لذلك يمكن إيجاد مركبات السيليكون في كل مكان، وعلى الرغم من صعوبة العثور عليه في الطبيعة في حالته النقية، فإنه يُعتبر المكون الأساسي في الرمل ومختلف أنواع الأتربة، وبالطبع يعتبر مكوّنًا أساسيًا في صناعة الزجاج. وتنعكس هذه الوفرة الهائلة بشكل مباشر على
تكلفة استخراجه وتصنيعه. فعلى عكس العناصر النادرة أو الثمينة، يمكن الحصول على
السيليكون بأسعار زهيدة نسبيًا، حيث تبلغ تكلفة الكيلوجرام الواحد عادة حوالي 3$،
ومع أن التكلفة تختلف اعتمادًا على النقاء المطلوب، إلا انه في معظم الأحوال
يكون أرخص من بقية المعادن المستخدمة في الصناعة.
هذه التكلفة المنخفضة لها تأثير كبير على صناعة الإلكترونيات. فهي تسمح بإنتاج
كميات هائلة من الرقائق الإلكترونية بتكاليف معقولة، مما يساهم في خفض أسعار
الأجهزة الإلكترونية المُباعة وجعلها في متناول شريحة أكبر من المستهلكين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن وفرة السيليكون تضمن استمرارية الإمداد، مما يعني أن
الصناعة لا تواجه خطر نفاد المواد الخام كما هو الحال مع بعض المعادن النادرة
الأخرى.
السيليكون من المواد شبه الموصلة
دعونا نتفق أن بعض المصطلحات في هذه الفقرة ستبدو غريبة نوعًا ما، لاسيما لغير المختصين في الفيزياء والإلكترونيات، ولكن بشكل مبسط يمكننا القول إن تصنيف المواد المختلفة يعتمد من وجهة نظر كهربائية على خصائصها الموصلة للكهرباء أو قدرة المادة على نقل الشحنات الكهربائية والسماح بسريان التيار الكهربائي من خلالها. وفي حالة صناعة الأجهزة الإلكترونية باختلاف أنواعها وتصميماتها، تكون المواد شبه الموصلة للكهرباء هي حجر الأساس لكونها متوسّطة التوصيل للكهرباء، إذ لا تتمتع بموصلية عالية جدًا للكهرباء كالمواد الموصلة للكهرباء (مثل المعادن) وبنفس الوقت فإن موصليتها الكهربية ليست صغيرة جدًا وشبه معدومة كالمواد العازلة للكهرباء (مثل البلاستيك). ونظرًا إلى أن السيليكون ينتمي إلى هذه المواد كشبه موصل، فتلك تعُد من أهم الأسباب التي تجعله مثاليًا لصناعة الإلكترونيات.
كما أن الخصائص شبه الموصلة للسيليكون تجعله قابلاً للتحكم في موصليته الكهربائية عن طريق إضافة شوائب معينة إليه، في عملية تُسمى
الإشابة (Doping) ويُعتبر هذا الأمر مهمًا في صنع الدوائر الإلكترونية وأجزائها الدقيقة مثل الترانزستورات والديودات وسواها، إذ لا يمكن استخدام السيليكون بحالته النقية لصنع هذه الأجزاء، بل يلزم خلطهُ بعناصر أخرى بنسب منخفضة بهدف تحسين موصليته.
وبشكل عام تُستخدم الإشابة لإنتاج نوعين من السيليكون:
النوع N
ويقصد به إضافة مادة (مثل الفوسفور) تحتوي طبقتها السطحية إلكترون زائد (أي
خمس الكترونات) إلى مادة السيليكون. عندما يتم إضافة هذه المادة، تتحد أربعة
من إلكتروناتها مع ذرات السيليكون، ويبقى الإلكترون الخامس حرًا والذي يمكنه نقل
الشحنة، وبالتالي تزداد القدرة على توصيل الكهرباء. أما النوع P يقصد
به إضافة مادة (مثل البورون) تحتوي ثلاثة إلكترونات فقط (أي أقل من
إلكترونات السيليكون بإلكترون واحد) إلى مادة السيليكون النقية. عند خلط هذه
المادة، تتشكل روابط مع ثلاث إلكترونات من ذرة السيليكون، ما يؤدي إلى نشوء
رابطة غير مكتملة، والتي تُعرف باسم الفجوة أو الثقب. وجود هذه الفجوات يعمل
على زيادة موصلية السيليكون كونها تتصرف كشحنات موجبة.
جدير بالذكر أيضًا أنه عادًة ما يتم خلط السيليكون بالجرمانيوم (SiGe)
لتحسين خواص السيليكون من حيث السرعة والكفاءة عند صنع الترانزستورات، إذ
يساعد إضافة الجرمانيوم في جعل الإلكترونات تتحرك بشكل أسرع مقارنة بالسيليكون
النقي. الشاهد هنا هو أن القدرة على التحكم الدقيق في الخصائص الكهربائية
للسيليكون هي ما يجعله أساسيًا في صناعة المعالجات الدقيقة وكل الأجهزة
الإلكترونية تقريبًا، فمنذُ سنوات وحتى الآن يعد السيليكون الحل المثالي في
الترانزستورات ولا يوجد بدائل عملية له اليوم.
الاستقرار والمقاومة الكيميائية العالية
المركبات التي تحتوي السيليكون ضمنها تتميز بدرجة عالية من الاستقرار على كلا
المستويين الكيميائي والحراري، حيث من الصعب أن يتفاعل السيليكون مع المواد
الأخرى أو الهواء مثلاً في الظروف العادية، مما يعني أن ما يصنع من
السيليكون يفترض به أن يبقى كما هو محتفظًا بخصائصه لفترات طويلة دون تدهور، وهذا
ما يحصل بالطبع. كما يتميز السيليكون بنقطة انصهار عالية نسبيًا، فهو
يبقى في حالة صلبة حتى حرارة 1410 درجة مئوية. هذه الخاصية تجعله قادرًا على تحمل
درجات الحرارة العالية التي قد تنتج أثناء تشغيل الأجهزة الإلكترونية المعقدة.
بالإضافة إلى ذلك، يحتفظ السيليكون بخصائصه شبه الموصلة حتى في درجات الحرارة
المرتفعة، مما يجعله مناسبًا للاستخدام في مجموعة واسعة من الظروف البيئية.
عوامل الاستقرار هذه تترجم إلى أن الأجهزة المصنوعة من السيليكون تتمتع عادًة
بعمر افتراضي طويل وأداء يعتمد عليه. فالرقائق الإلكترونية المصنوعة من السيليكون
يمكن أن تعمل لسنوات عديدة دون تدهور ملحوظ في أدائها، وهذا أمر حيوي خاصة في
الاستخدامات الحساسة مثل صناعة الأجهزة الطبية أو أنظمة الطيران.
البدائل المحتملة للسيليكون في الرقائق الإلكترونية
كما أشرنا، فالسيليكون ليس نصف الناقل الوحيد، فهناك مواد مثل الكربون
والجرمانيوم تنتمي إلى المواد نصف الناقلة، لكن الكربون هش جداً كونه يستخدم
وحده، كما أن الجرمانيوم باهظ الثمن للغاية مقابل السعر الرخيص للسيليكون كونه
أقل وفرة، ومع أنه كان في وقت من الأوقات منافسًا قويًا للسيليكون في صناعة
أشباه الموصلات، بل وكان الجرمانيوم هو المادة المستخدمة في
صنع أول ترانزستور في عام 1947 لكنه لا يتميز بميزة الاستقرار الكيميائي حيث أنه أكثر تفاعلاً كيميائيًا من
السيليكون في درجات الحرارة العادية.
مثل كل شيء، فالسيليكون ورغم كل مزاياه، ليس مثاليًا، بل يرى العلماء أن هناك
مجالاً للتحسين، وبالأخص في مجال تبديد الحرارة. اليوم يمكن القول بأن الجرافين
(Graphene) هو المنافس الوحيد للسيليكون. منذُ اكتشافه في عام 2004، أثار
الجرافين اهتمامًا كبيرًا كبديل محتمل للسيليكون في الإلكترونيات المستقبلية. ومن
حيث المبدأ فالجرافين هو عنصر الكربون، لكن يختلف عن الكربون المعتاد –
الذي نشاهده في الفحم مثلًا – إذ يمتلك بنية بلورية مميزة، حيث أنه يصنع على شكل
طبقات رقيقة جدًا بسماكة ذرة واحدة فقط. وبالتالي يمكن صنعه بأحجام أصغر من أي
مادة أخرى نعرفها.
يتميز الجرافين بعدة خصائص مثيرة للإعجاب، إذ يتفوق باكتساح
على السيليكون من حيث التوصيل الكهربي لدرجة تجعله أفضل موصل للكهرباء
معروف حتى الآن. وعلى الرغم من رقته الشديدة، فإن الجرافين أقوى من الفولاذ بمئات
المرات. وقابلية تصنيعه بأحجام صغيرة جدًا تجعله مهئيًا لتطوير الشرائح
الإلكترونية المستقبلية التي تحتاج للمزيد من كثافة الترانزستورات بجعلها أصغر
حجمًا.
ومع ذلك، لا يشكل الجرافين أي تهديد حقيقي لعرش السيليكون في مجال
صناعة الرقائق الإلكترونية، فلا يزال يواجه تحديات كبيرة مثل صعوبات
التصنيع، فإنتاج رقائق جرافين كبيرة وخالية من العيوب أمر معقد ودقيق
جدًا، كما أن تكلفة إنتاجه خيالية تمامًا، إذ يصل سعر الجرام الواحد من
الجرافين إلى ما بين 100 و400 دولار أمريكي، بالمقارنة، فهذا أغلى حتى من
الذهب. وعلى عكس السيليكون، لا يمتلك الجرافين فجوة نطاقية طبيعية، مما يجعل من
الصعب استخدامه في صنع الترانزستورات التقليدية.
سيبقى السيليكون هو أساس الإلكترونيات
مع الوقت من الممكن أن تنخفض تكاليف تصنيع الجرافين تدريجيًا ومعالجة عيوبه ليصبح
منطقي الاستخدام، لكن إلى أن يحين ذلك، سيظل السيليكون الخيار الأساسي
لصناعة الرقائق الإلكترونية. مزيج الانتشار، والسعر الرخيص، وقلة احتمال التفاعل،
بالإضافة إلى عقود من الخبرة في تطويره، يجعل من الصعب استبدال السيليكون بسهولة.
في الوقت نفسه، لا ننكر أن صناعة الإلكترونيات تواجه تحديات متزايدة مع الحاجة
الملحة لتصغير حجم الترانزستورات.
فقانون مور، الذي تنبأ بمضاعفة عدد الترانزستورات على الرقاقة كل عامين، يقترب من حدوده
الفيزيائية. وهنا إما أن يأتي دور الابتكار في تقنيات السيليكون لتمديد عمره
في الصناعة أو إيجاد بدائل.