تأتي معظم المتصفحات مزودة بما يُسمى "التصفح المتخفي" Private Browsing أو الـ "Incognito Mode" والذي يتيح للمستخدمين إخفاء المواقع التي يقومون بزيارتها من سجّل المتصفح بالإضافة إلى عدم تخزين الملفات المؤقتة (الكوكيز) وبيانات المواقع كما يحدث في وضع التصفح العادي. لكن وعلى عكس ما يعتقده الكثيرون؛ لا يُخفي وضع التصفح المتخفي هويتهم نفسها، إذ يستطيع الآخرون أن يتعقبوا نشاطك ويتجسسوا عليك – بأكثر من طريقة – وكأنك تستخدم الوضع العادي من المتصفح، فكيف يفعلون ذلك؟ وإذا كان وضع التصفح المتخفي لا يُخفي الهوية أثناء استخدام المتصفحات، فهل من طريقة لسد هذا الاحتياج؟ دعونا نوضح الإجابة مفصلة على تلك التساؤلات انطلاقا من السطور التالية.
ثغرات وضع التصفح الخفي
أولًا: ما هي وظيفة التصفح المتخفي أصلًا ؟
في الوضع العادي تقوم المتصفحات المختلفة بتخزين سجل نشاطك المتمثل في زيارة المواقع، ويمكنك أن تتأكد من ذلك بفتح تبويبة "السجل" History. باستخدامك لوضع التصفح المتخفي، فإن المتصفح يتوقف عن ذلك، بل ويحجب ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) التي تُعطي لأصحاب المواقع المختلفة القدرة على تتبع نشاط المستخدمين بغرض استهدافهم بالإعلانات. يتضمن وضع التصفح المتخفي أيضًا تعطيل الإضافات أو "الملحقات" المثبتة على المتصفح، وإن كان هذا اختياريًا، حيث يمكن السماح لبعض الملحقات العمل في وضع التصفح الخفي.
بشكل عام، هذه الأشياء هي كل ما يفعله الدخول في وضع التصفح المتخفي، أما عن حقيقة إخفاء الهوية، فهذا ليس صحيحًا كما أوضحنا في مقالة سابقة بعنوان [لا تثق في التصفح الخفي!]. الدخول في وضع الـ "Incognito" يُشبه استخدام المتصفح في الوضع العادي ثم حذف سجل التصفح وملفات الارتباط فور الانتهاء، وهذا يؤدي الغرض في حال ما إذا أردت إخفاء سجل التصفح عن مستخدمي نفس الجهاز، ولكن مرة أخرى؛ لا يؤتي الأمر ثماره على مستوى الخصوصية ولا يحول دون تعقبك أو التجسس عليك. إليك أدناه 6 حالات تُثبت ذلك.
ثانيًا: كيف يتم تتبعك عند تفعيل التصفح الخفي؟
1- التجسس باختلاس النظر!
لعل أشهر طرق التجسس واقتحام الخصوصية تتمثل في هذه الطريقة، والتي تُعرَف بـ "التعقب من فوق الكتف" Over-the-Shoulder Tracking، وسُميت كذلك نسبة إلى الصورة النمطية الشهيرة التي يختلس فيها شخصٌ ما النظر ويتجسس على الأشخاص من فوق كتفهم دون درايتهم. قد تستعجب من ذكرنا لهذه الطريقة، ولكنها تظل إحدى الوسائل التي يمكن التجسس بها عليك، فوضع التصفح المتخفي لا يضع حائلًا على الشاشة في المطاف، فانتبه!
2- التصفح المتخفي عديم الفائدة على الأجهزة العامة
لكي تستفيد أقصى استفادة من وضع التصفح المتخفي، فاحرص على استخدامه على الأجهزة الخاصة، وذلك لأن استخدامك لحاسوبٍ متصل بنظام أو بشبكة من الحواسيب الأخرى قد يُعرض سجّل تصفحك للتجسس، إذ يترك هذا أثرًا يمكن تتبعه بسهولة. لو كنت في الجامعة أو في العمل مثلًا واستخدمت حاسوبًا عامًا وفعّلت وضع التصفح المتخفي عليه ظنًا منك أن هذا لن يكشفك، فأنت مُخطئ!
في كثير من الحالات يستطيع المسؤول أو الأدمن أن يطلع على سجل نشاطك، حتى لو كنت تستخدم وضع التصفح المتخفي، فعلى سبيل المثال قد تلعب لعبة أونلاين على متصفح أحد الأجهزة – أثناء تفعيل وضع التخفي – ويتم كشفك في النهاية عن طريق الـ IP الخاص بالجهاز والمتصل بسيرفرات اللعبة.
3- بعض المواقع تستغل ثغرات التصفح المتخفي
نعم، فأصحاب المواقع لا يتعقبونك من خلال سجل التصفح، ناهيك أن استخدامك لوضع التصفح المتخفي لا يعني أن بياناتك أو نشاطك على الإنترنت سيكون مشفّرًا؛ إطلاقًا! هذا يعني أن المواقع التي تزورها تستطيع معرفة الكثير من التفاصيل عنك – مثل موقعك الجغرافي – بغض النظر عن وضع التصفح الذي تستخدمه. لتتأكد من ذلك بنفسك، ادخل إلى موقعٍ محظور في بلدك أثناء وضع التصفح المتخفي وستلاحظ أن الموقع لا يفتح، أليس من المفترض أن تتصفح هذا الموقع المحظور بسهولة إذا كانت هويتك مخفية كما هو الحال عند استخدام VPN مثلًا؟
لحل هذه المشكلة، وعلى سيرة برامج الـ VPN، بإمكانك أن تستخدم إحداها لتخفي هويتك حقًا وتُوهم المواقع التي تتصفحها أنك من مكان مختلف عن موقعك الجغرافي الحقيقي (فهذه وظيفة برامج الـ VPN)، فقط تأكد من موثوقية مُزوّد خدمة الـ VPN وكل شيء سيكون على ما يرام.
4- استخدام هجوم الوسيط!
قد لا يكون مزود الإنترنت ISP أو شركات الاتصال التي تحصل منها على الخدمة مُطلعةً على محتوى المواقع التي تتصفحها، ولكنها تكون على دراية بعناوين الـ IP الخاصة بهذه المواقع مما يُعطيهم لمحةً عن نشاطاتك، حتى أثناء وضع التصفح المتخفي، فبياناتك تُسافر من جهازك إلى سيرفرات شركة الإنترنت المُشترك معها، وأثناء هذه الرحلة، هناك من قد يتربص بك!
يستخدم الهاكرز هجومًا سيبرانيًا معروف باسم "هجوم الوسيط" Man-in-the middle، أو الرجل المتربص في المنتصف، في إشارةٍ إلى المُخترق الذي يعترض طريق بياناتك أثناء رحلتها من جهازك إلى سيرفرات مزود الإنترنت. إن استخدامك لوضع التصفح المتخفي لن يحميك من هجوم كهذا، ما سيحميك هو انتباهك أثناء عملية التصفح؛ تأكد من موثوقية شبكة الواي فاي ومن المواقع التي تدخل إليها وأغلب الظن أنك ستكون بمأمن.
5- البرمجيات الخبيثة والإضافات يمكنها تتبعك
لا يؤثر وضع التصفح المتخفي على البرمجيات الخبيثة أو أي شيء قد يكون مدسوسًا في جهازك ليتجسس عليك. بتثبيتك لإضافة مجهولة المصدر وغير موثوقة على متصفحك، فإنك تُعرض خصوصيتك للخطر، ونفس الشيء ينطبق على البرمجيات الخبيثة؛ لا علاقة لوضع التصفح أو سجل المتصفح بهذا الأمر، وسواء حذفت "السجل" History أم لا، ستظل في خطر ما دُمت تستخدم برامج وإضافات لا تعرف مصدرها.
لهذا السبب بالمناسبة تُعطل الكثير من المتصفحات الإضافات الموجودة عليها أثناء استخدام وضع التصفح المتخفي، وذلك لأن هذا الوضع لا يحميك من الإضافات الفاسدة؛ يقول لسان حال المتصفحات في هكذا مواقف: على الأقل سنحمي مستخدمينا أثناء وضع التصفح المتخفي عن طريق تعطيل الإضافات. في المرة القادمة التي تُثبت فيها برنامجًا على الحاسوب أو إضافة على المتصفح، ألق نظرة على المصدر.
6- بصمة المتصفح لا تزال فعالة
هناك مُصطلح يُعرَف بـ "بصمة التصفح" Browser Fingerprint ويُشير إلى أن تجربة كل مستخدمٍ فينا أثناء التصفح هي تجربة مميزة بشكلٍ أو بآخر، فكر في الأمر؛ لكل شخصٍ منا عنوان IP مختلف، ومواصفات أجهزتنا مختلفة، ونعتمد على متصفحات مختلفة، ونستخدم مواقع مختلفة، وكل فعل تقريبًا يُشكل جزءًا من شخصيتنا، وإن تشابهت بعض هذه الأفعال والأدوات.
تستخدم العديد من المواقع هذه المعلومات وتكون لك ملفًا شخصيًا (Profile) لديها دون حاجة إلى قراءة ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز)، وكما توقعت؛ لا يمنعهم وضع التصفح المتخفي من جمع هذه المعلومات، ومرة أخرى وأخيرة؛ إن أفضل شيء قد تفعله حيال ذلك هو استخدام VPN.
ثالثًا: إذا كان وضع التصفح المتخفي لا يُخفي هويتك، فماذا تفعل؟
إضافة إلى النصائح الضمنية التي اقترحناها بالأعلى، يمكنك أن تستخدم متصفحات تعتمد على بروتوكول HTTPS بشكل افتراضي، لحسن الحظ أن هذا ينطبق على أشهر المتصفحات التي نستخدمها؛ جوجل كروم. إذا كنت تعتمد على متصفح ما ووجدته – عن طريق النظر في شريط العنوان – لا يستخدم البروتوكول المذكور، فبإمكانك استخدام الإضافات الموثوقة لحل هذه المشكلة مثل إضافة HTTPS Everywhere المُتاحة على فايرفوكس وجوجل كروم كذلك، ولكن يجب أن تعرف أن هذه الإضافة قد تؤثر على عمل بعض المواقع، ولكن من ناحية الخصوصية والأمان فلا تقلق.
هناك حل آخر؛ لا يُشفر بياناتك كليًا، ولكنه على الأقل يعمل على إخفاء موقعك المُحدد، وهذا الحل هو سيرفرات Proxy. ضع في الحسبان كذلك استخدام المتصفحات الآمنة التي تخفي نشاطاتك على الإنترنت كما تُعتّم على موقعك الفعلي، مثل متصفحي Tor و Brave. هذه الحلول، إضافة إلى استخدام مكافح فيروسات قوي يُصعّب للغاية من اقتحام خصوصيتك.
الخلاصة؛ عند استخدام المتصفح في وضع التصفح المتخفي، فإن سجل تصفحك لن يتم حفظه، ناهيك أن ملفات الارتباط ستُحجَب وإضافات المتصفح قد تُعطَّل، أما بالنسبة لبياناتك وخصوصيتك فلن يكونا بأمنٍ على الإطلاق، فطريق وضع الـ "Incognito" لا يتقاطع مع طريق الخصوصية والأمان إطلاقًا، وإنما ذلك من اختصاص برامج الـ VPN والنصائح الأخرى التي أوردناها.