لا نتخيل أو نهول من الأمر، فهذا هو الواقع الحقيقي الذي نعيشه. فقد أجمعت العديد من الدراسات والأبحاث العلمية على أن مواقع التواصل الاجتماعي تزيد من حدة بؤس البشر ويأسهم، وليس ذلك فقط، بل وتؤثر أيضاً على حالتهم النفسية وقواهم العقلية. ليس من الضروري أن تراهم أمام عيناك وهم في أسوأ حالاتهم، ولكن تأكد أنهم موجودون حولنا وفي كل مكان، ربما أي واحد منا هو من هؤلاء.
تشير الأبحاث العلمية إلى أنه كان لمواقع التواصل الاجتماعي أثر سلبي في تصاعد حالات الاكتئاب والقلق والتوحد عند الناس. ومع تزايد عدد الأبحاث والدراسات تزداد أعداد وقائمة التأثيرات السلبية وردود أفعالها. دعونا نستعرض أهم الآثار السلبية التي تتسبب فيها مواقع التواصل الاجتماعي على صحتنا العقلية والنفسية.
النبذ السيبراني والتباعد الحياتي
النبذ السيبراني أو ما نسميه بالنبذ الإلكتروني، وفيما معناه أننا جميعاً بدأنا نعتمد على مواقع التواصل الإجتماعي في البحث عن الانتماء وتشكيل الروابط الاجتماعية مع الآخرين. لسبب أو لآخر تجد شيء ما يدفعك لزيادة عدد اصدقاءك والتعرف على الآخرين وتحديث جدولك اليومي بانتظام. بعضنا أصبح يعتمد على مواقع التواصل في شتى أمور حياته اليومية الشخصية والاجتماعية.
تشير الدراسات العلمية إلى أن هناك فائدة من وراء هذا الأمر، إذا تسمح للأشخاص بالتواصل مع الغير حتى مع اختلاف مواقعهم الجغرافية وابتعادهم عن بعضهم البعض بآلاف الأميال. ولكن من ناحية أخرى كان لذلك أثر سلبي خطير، حيث تحولت وجهة الكثيرين من الأشخاص وإنجرافهم بعيداً عن الوسط الاجتماعي والواقع الحقيقي، وقد أدى هذا الأمر مع مرور الوقت إلى تباعدهم الحياتي عن أُسرهم والقريبين منهم. وهذا ما عُرف عنه بالنبذ السيبراني أو cyberostracism.
النبذ السيبراني نتيجة عدم وجود إعجابات أو تعليقات
من الطبيعي أن أي شخص يقدّر الاهتمام بالذات والشعور بحب السيطرة على الأشياء، في الواقع هذه هي الدوافع الأساسية في سبب تواجدنا بالحياة. ولكن يحدث النبذ السيبراني عبر مواقع التواصل عند غياب التعليقات والإعجابات وعدم وجود نقاشات حيوية مع الآخرين. فقد اكتشف باحثون من جامعة ولاية إلينوي في عام 2018 أن عديد من البشر يشعرون بالنبذ والتجاهل والاستبعاد من الآخرين بمجرد غياب الإعجابات والتعليقات على منشوراتهم الشخصية على مواقع التواصل. فمثلاً عندما تلاقي جميع منشوراتك عدد 0 من الإعجابات و 0 من التعليقات، فستبدأ حينها تشعر بالإكتئاب والشعور بالعجز العام وانعدام القدرات وربما قد تفقد الثقة بنفسك والمغزى والهدف الحقيقي من وجودك.
وبجامعة مانهايم في ألمانيا، توصل الباحثون إلى دراسة جديدة تؤكد على أن كثير من الناس يشعرون بالنبذ الإلكتروني والاكتئاب إذا اكتشفوا عدم تلقي تعليقات أو ردود فعل فورية على منشوراتهم فور إضافتها على صفحاتهم بمواقع التواصل. ووفقاً لدراستهم تبين لهم مدى خطورة الأمر على بعض الأشخاص أثناء انتظارهم الرد على رسائلهم بعد ظهور رمز "seen" فور إرسالها، وأكدت الدراسة أنها من أهم العلامات المُحفزة التي تزيد من خطر استجابة الحالة النفسية للنبذ والاكتئاب نتيجة تأخير تلقي الردود التي ينتظروها.
نفس الشيء يحدث أثناء الانتظار للموافقة على طلبات الصداقة، وهي من الأشياء التي تتسبب للانسان بالدخول في مرحلة قيد الانتظار والاستعداد الدائم لرد الفعل، وهي من العوامل التي تزيد من نسبة استجابة العقل والحالة النفسية للشعور بالقلق والتوتر العصبي لدى البعض. ووفقاً لدراستهم فإن إلغاء طلبات الصداقة أو رفضها من الأمور التي تضع بعض الإناس في حفرة أعمق من النبذ الإلكتروني.
المقارنات السامة في حياة وأنماط البشر
المقارنات الاجتماعية في اسلوب ونمط حيوات البشر من أخطر المشاكل المستجدة التي تواجه الإنسان في العصر الحالي. فقد إعتاد الجنس البشري على مقارنة بعضه البعض، الجيران تقارن بعضهم بعضاً، الأهل والأقارب يقارنون بعضهم البعض، والأصدقاء كذلك نفس الشيء مع بعضهم البعض، ولكن بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تحرر الجميع من خندق المقارنة مع الجيران والأصدقاء، وأصبحنا مستعدين لمقارنة أنفسنا مع جميع البشر الآخرين أينما كانوا، أصبح الجنس البشري بأكمله داخل نطاق وحيز واحد واقرب لبعضه بعضاً.
فترى بعضهم من ينجح في مسعاه ليصبح نجم مشهور، أو أيقونة بارزة في المجتمع أو صاحب قناة شهيرة، أو فجأة يركب سيارة حديثة وأصبح لديه الكثير من المعجبين والمتابعين والأشياء السعيدة التي تغمر كل حياته، بينما أنت لا تزال مستقر "محلك سر". والآن، جاء وقت محاسبة النفس، أحياناً تجد نفسك مُعرض لتوجيه اللوم لشخصك على أنك كنت ولا تزال مقصراً في العديد من الاشياء. وهذه كانت وفقاً للدراسات التي تداولتها مواقع ومجلات علم النفس الاجتماعي.
هذه الأسباب تدفع بالبعض لنشر أفضل ما لديهم وما يخص حياتهم الشخصية، لكي يعطوا انطباع للآخرين عن أفضل نسخة من أنفسهم، أو أفضل ما يمتلكونه، ربما تنجح في اكتساب الثقة بنفسك من جديد. ولكن ماذا ستفعل لو اتضح لك أن نتائج أفضل نُسخة من نفسك لا تساوي إلا القليل مقارنة بنُسخ أصدقائك على مواقع التواصل ؟، حينها ستشعر أن حياتك كلها تفتقر للعديد من الاشياء الهامة والضرورية، وتشير الأبحاث إلى أن هذه العوامل هي من أشد المخاطر والتهديدات التي تواجه الحالة النفسية والمزاجية للأشخاص، والتي كانت سبباً في إرتفاع وتيرة أعراض الاكتئاب النفسي عند البعض.
كيف كان لمواقع التواصل تأثيراً سلبياً على حالة جسدك
أشارت بعض مجلات الجمال والصحة العالمية إلى أن هناك ارتباط وثيق بين مواقع التواصل وصورة البنيان الجسدي عند البعض، إذ يحاول العديد من شباب وفتيات العصر الحالي مقارنة أجسادهم مع أجساد غيرهم من المشاهير العالميين والرياضين. ودائماً يجدون أنفسهم هم الأسوأ حتى وإن كان العكس هو الحقيقة. بالإضافة لذلك فهم لا يتذكروا أن أغلب الشخصيات وخاصة المشاهير تعتمد على اساليب التحرير والتعديل على الصور والتي تنتج صورة خيالية وغير واقعية لأنفسهم.
وربما هذا ما يجعلهم يشعرون بالاستياء من أنفسهم وتقليل قيمتهم لذاتهم الشخصية، هذه المشكلة كانت من أهم الأولويات التي تؤدي بالبعض الدخول في صراع مع إضطرابات الأكل. في نفس الوقت، أشارت التقارير العلمية إلى احتمالية وجود فائدة من هذه المقارنات، إذ من الممكن أن تلعب في صالح التعزيز بالبنيان الجسدي، والمحافظة على إتباع نظام صحي معتدل، وقد يكون مُحفز رئيسي لتغيير نمط الحياة السيء واستبدالها بالنمط الصحي المعتدل.
ولكن الغالبية العظمى من البشر ليسوا بتلك القدرة على المثابرة والاستمرار، وفي النهاية يقعون في فخ مواجهة الواقع الحتمي، وهذا ما يجعل من تلك المقارنات شبيهة بالمقارانات السامة والتي قد تتسبب في زيادة الاهمال من صحة ومظهر الانسان بدلاً من الاهتمام بالذات وتحسينها.
ربما يكون الوقت مناسباً لأخذ استراحة
جميع الدراسات خرجت بنتيجة واحدة فقط في النهاية، وهي أن أخذ استراحة وتمضية أوقات أقل على مواقع التواصل الاجتماعي ستزيد من شعور المرء بالسعادة، في الواقع العديد من التجارب التي نجحت في الابتعاد عن مواقع التواصل لفترة طويلة من الزمن أكدوا على أنهم ينعمون بعدها بحياة أفضل، ويقضون أوقات ممتعة أكثر من أي وقت مضى، وتمكنوا من العودة لحياتهم الواقعية بشكل افضل.